بينما كنت أزور أحد أصدقائي إذ دخل علينا حفيده ذو العشر سنوات فسلمَ ومكثَ غير بعيد، ثم فتح كراسته على الطاولة أمامنا مُتكئًا عليها بكوعه الأيسر، راسمًا بيمناه مستطيلاً رفيعًا قَسَمَهُ إلى نصفين، كتب على جانبه الأيمن (N)، والآخر (S)، ثم راح يرسم في القسم العلوي خطوطًا منحنية متجهة من اليمين إلى اليسار، يتوسط كل منها سهم، وكذلك فعل في القسم السفلي، كأنما يفصل القسمان مرآة.
ابتسمت وسألته مختبرًا، ما هذا؟، فأجاب مغناطيس، وما هذه الرموز؟، فقال -وقد خالطت لغته بعضًا من أعجمية إنجليزية- ترمز (N) إلى القطب الشمالي، و(S) إلى الجنوبي، أما الأسهم فتشير إلى اتجاه المجال المغناطيسي بينهما، ومضى يشرح.
في طريق العودة بالسيارة، أطرقت قليلاً مسترجعًا حديثي مع الطفل، وتذكرت وقت كنت في سِنه أقف مُتحَلِقًا مع أقراني حول المدرس بمعطفه الأبيض يشرح لنا درس المغناطيسية، واصفًا لنا ذلك المجال غير المرئي وصف يقين، ونحن له مصدقون، ثم لا يلبث يضع ورقة بيضاء فوق مغناطيس وينثر فوقها بشكل عشوائي برادة حديد، فإذا بها تنتظم مُشكِلِةً تلك الخطوط الرفيعة التي رسمها على السبورة بالطباشير، فاطمئن قلب كل متشكك، وصار الخيال يقينًا.
أطرقتُ قليلاً ورفعت حاجبي متعجبًا أسأل نفسي، عن سبب اتجاه المجال من الشمال إلى الجنوب، في حين أنه يتحرك داخل المغناطيس في الاتجاه العكسي. 
ثم طرقت ذهني تلك العلاقة الملتبسة بين الشمال والجنوب في حياتنا الاجتماعية والسياسية؛ إذ يكاد يستأثر الشمال بمكانة أعلى عن الجنوب؛ خذ مثلاً دول الشمال الأوربي متقدمة، دول الجنوب الإفريقي دون التقدم بكثير.
وربما قال قائل، هذا في أوروبا، فما بالك لا تنظر إلى الأمريكيتين، لكنك لا تلبث تجد أمريكا الشمالية في موقع اقتصادي وتكنولوجي يفوق جنوب لاتيني قضى عقودًا تحكمه ديكتاتوريات متعاقبة، أسست إمبراطوريات للخارجين عن القانون، بينما الشمال تتجاوز ناطحات علمه وعمله حدود سحاب الفِكر. 
ليس هذا فحسب، فلو أنك أخذت الشمال على إطلاقه وقسمته لوجدت شمال الشمال أكثر رخاءً من جنوب الشمال. فالدول الإسكندنافية؛ فنلندا، النرويج، أيسلندا، والدنمرك أكثر تقدمًا ورفاهية من إيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال. حتى إذا تجاوزت ونظرت إلى دول وسط أوروبا، فستجدها في موقع دون الشمال وفوق الجنوب علميًا واقتصاديًا.
حتى إذا ضيقت النطاق ونظرت داخل الدولة الواحدة، فستجد للشمال مكانة أعلى، تمتد من الحدود الاقتصادية إلى الاجتماعية في شكل نكتة أو طرفة من جنوبه. توافقٌ وتماثلٌ كبيرين مع خصائص علم المغناطيسية، فكل جزء تقتطعه من مغناطيس يرث ذات الخصائص، ويصبح له شمال وجنوب.
على العكس، يسري المجال المغناطيسي داخل المغناطيس من الجنوب إلى الشمال مزودٍا إياه بمصدر قوة يمكنه من صنع مجاله الحيوي الخارجي. بإسقاط ذلك المفهوم على نموذج الدول نجد غِنَى دول الجنوب بالمواد الخام الأولية المُشَكِلة لعماد التكنولوجيا التي تمتلك ناصيتها دول الشمال وتعيد تصديرها بعد دمجها بالمعرفة، فتكسبها قيمة مضافة تفوق ما كانت عليه وهي مادة خام بائسة تسكن جوف الأرض في مجاهل الجنوب، تكامل لا يعني تساوي النتائج؛ فمثلاً يتجاوز إجمالي الناتج القومي المحلى لألمانيا؛ 4,2 تريليون دولار، مجموع نواتج دول الشرق الأوسط وإفريقيا.
ومن عجيب الحال ومفارقاته أن إبرة البوصلة الممغنطة المتجهة دومًا صوب الشمال، تشير في ذات الوقت بطرفها الآخر نحو الجنوب، الذي قلما يلتفت إليه أحد. وكأنها تخبرنا أن لا غنى لطرف عن الآخر. 
ما أشبه سذاجتي في رحاب العلم والإدراك، بذلك الطفل الجالس يستذكر درس المغناطيسية في صمت.